عالم الغيب والشهادة (2/2) * بقلم / ماجد ابن أحمد الصغير
الحمد
لله رب العالمين ، أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والصلاة
والسلام على النبي الأمي الكريم وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد .
فإتماما للحلقة السابقة . في الكلام على اسم الله (عالم الغيب والشهادة) نقول :
ومن الآثـار :
أنّ
جماع الخير أن ينزل الإنسان عن محبوباته لوجه الله عز وجل ، وبذلك تسخو
نفسه ، وتتحرر من رق الشهوات وعبوديتها ، ولا يقدر الإنسان على ذلك إلا
إذا عرف أن الله سبحانه يعلم ما ينفقه الإنسان ويشكره عليه ويجازيه أحسن
الجزاء وعلى هذا الدرب سار الكثير يلبون نداء الله ليرتقوا مرتقى البر
العالي الكريم ؛ ولذا لمانزل قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }.جاء
أبو طلحة الأنصاري وكان أكثر أنصاري بالمدينة مالاً, وكان أحب أمواله إليه
بيرحاء, وكانت مستقبلة المسجد, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها
ويشرب من ماء فيها طيب, قال أنس: فلما نزلت {لن
تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال أبو طلحة: يا رسول الله, إن الله
يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}, وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء,
وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى, فضعها يا رسول الله حيث
أراك الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم, «بخ بخ ذاك مال رابح, ذاك مال
رابح, وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين», فقال أبو طلحة: أفعل يا
رسول الله, فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه[1].وقال ابن عمر رضي الله عنه (أصاب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم
يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس
عندي منه فما تأمر به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر
... ) [2] . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : حضرتني هذه الاَية {لن
تنالوا البر حتى تنفقوا ممما تحبون} فذكرت ما أعطاني الله, فلم أجد شيئاً
أحب إليّ من جارية لي رومية , فقلت: هي حرة لوجه الله, فلو أني أعود في
شيء جعلته لله لنكحتها , يعني تزوجتها [3].إنه
الافتداء والإنفاق ليوم لا ينفع فيه الإنفاق ولا الافتداء ؛ فافتد نفسك
وانفق عليها واعلم أنك لن تنال البر حتى تنفق مما تحب وأن ماتعمل من شيئ
فإن الله به عليم [4].
ومن الآثـار :
أن يرضى الإنسان بالمقدور ويستسلم لمشيئة الله العليم الحكيم (
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ،وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله
يعلم وأنتم لاتعلمون ) (البقرة: 213) ، فلاتتشكى من مقادير الله واصبر
وتصبر على ما أصابك ، فإن جاءتك نعمة فاشكرها ، وإن فاتك مأرب أو استعصى
عليك مطلب ، فلاتتـألم . خذ لنفسك حظها من الإيمان والعلم والأدب ، ثم لا
تحفل بما فاتك بعد ذلك فما فاتك شيء فقد حصلت كل شئ !.
استخر
ربك يختر لك الأفضل ، ولا تتحسر على فوات صفقة ، ولاتحزن على ذهاب زوجة
فالله يعلم أن هذه التجارة لن تغنيك ، ويعلم أن هذه الزوجة لن تسعدك ،
واسأل الله الخيرة وحسن العاقبة والرضى في الأمر كله .
عن جابر رضي الله عنه قال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من
القرآن إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين ثم يقول اللهم إني أستخيرك
بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم
ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن
هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله
فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ويسمي حاجته ). [5] ومن الآثــار:
تربية الأبناء على معاني مراقبة الله واطلاعه وسعة علمه فلايزال الأب والأم يعللان أنفسهما و يذكران أولادهما بأن الله يعلم ويرى : (
ألم يعلم بأن الله يرى ) (العلق:14) ( يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل
فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير
)(لقمان:16) ،وهذه هي أعظم وظيفة للأم وأجل رسالة تبلغها .فالأم مربية
الأجيال الأولى ومهد البطولة والفضيلة تربي في قلوب أبناءها تعظيم الإله ،
والصبر والثبات والتضحية في سبيل الإسلام ،والدفاع عن حياظه.
الأم مدرسة إذا أعددتهـا أعددت شعباً طيب الأعراق .
الأم روض لو تعاهده الحيا بالري أورق أيمَّــا إيـراق .
ومن الآثــار :
أن
المؤمن حذر من التطلع لما خص به الله نفسه من علم الغيب في وقت ترامى
الناس على أبواب المنجمين والعرافين وابتدروا قنواتهم ( يرقبون من هؤلاء
مايرقب الروض من غادية السحب ، وهاموا بهم هيام الإبل العطاش على موارد
الماء يطلبون ماوراء السريرة – والسريرة كنز مرصود لاتنجع معه النافثات
ولاتجدي معه الزاجرات - فالمستقبل لله والغيب من اختصاص الله ) .
لعمرك ما تدري الضوراب بالحصى ولا زجرات الطير ما الله فاعل .
سلوهن إن كذبتموني متى الفتى يذوق المنايا أو متى الغيث واقع [6].
فلا
يحملنك أيها المسلم شوقك لمعرفة مستقبلك ، وحظك المنشود ، أو رفع حاضرك
المنكود أن تتسور على الغيب عن طريق هؤلاء فقد قال صلى الله عليه وسلم من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ( من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) [7] قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافاً ، أو كاهناً ، فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )[8]. ومن الآثـار :
فضيلة
العلم والتعلم ؛ لأن الله عليم يحب والعلماء ، وفي آيا ت الوحي الأولى
أمر بالقراءة والتعلم (إقرأ باسم ربك الذي خلق ) بل أمرين ( أقرأ وربك
الأكرم ) . وما أوتى الإنسان نعمة بعد الإيمان أعظم من تعمة العلم ،وهي
التي شرف الله بها آدم عليه السلام فأمر الملائكة بالسجود له إظهارا
لمزية العلم مع أنهم أكثر منه عبادة .
ومن الآثـار :
أنه
إذا عرف الإنسان منزلة العلم ، ورفعة أهله ، وسمت همته لتحصيله؛ فعليه
أن يرغب إلى الله سبحانه معلم الأنبياء أن يفتح عليه مغاليقه ، وييسر له
أسبابه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى واهب العلم والمعرفة . قال يوسف عليه
السلام ( رب قد آتيتني من العلم وعلمتني من تأويل الأحاديث ) وقال سبحانه عن الخضر : ( وعلمناه من لدنا علماً) .وقال عز وجل : ( ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلما ً) وقال لسيد الأولين والآخرين ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً ) .
فإذا
استغلق على الإنسان الفهم ، واشتد عليه الحفظ ؛ فليجأ إلى الله ، وقد كان
ابن تيمية يخرج إلى المساجد البعيدة ويمرغ وجهه ويقول يامعلم ابراهيم
علمني ويامفهم سليمان فهمني .
ومن الآثـار :
أن
على من أوتي نصيباً من العلم أن لا يغتر ولايطغى بسبب علمه – فإن للعلم
طغيان كطغيان المال إذا لم يهذب بالتقوى والخشية - عليه أن يعلم أن العلم
بحر لاساحل له ولاشطآن له ودعاوى العلم قصور كبير( ومن أراد النصيب الأوفى
من العلم فليشفع علمه بدوام تقوى وخشيته والعمل بأمره واستشعار علمه
ومعيته حتى يخشى الله فـ(
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (فاطر:28) فإن
من لا يخشى الله لايعد عالماً ، وأعظم طريق لتحقيق التقوى وتحصيل الخشية
كثرة ذكر الله وطهارة القلب من المهلكات وطهارة الجوف من المحرمات فإن
مقام العلم لايصلح إلا لمن تطهر باطنه وظاهره وصلح قوله وعلمه [9] .
فحري
بك أيها المؤمن عالماً أو متعلماً أن لاتشوه وجه إيمانك بالكبرياء فما
على وجه الأرض أسمج وجها من المتكبرين والله سبحانه وتعالى يقول : ( ولاتصعر خدك للناس ولاتمش في الأرض مرحاً إن الله لايحب كل مختال فخور ) (لقمان:18) .
ومن الآثــار :
الحذر
و الخوف من أن توافي الإنسان منيته على غير ما يحب ، وذلك ؛ لأن العاقبة
في علم الله عز وجل ولايدري أحد ما الله فاعل ، وقلوب العباد بين أصبعين
من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء و( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمن الطويل ثم يسبق عليه الكتاب فيكون من أهل النار )[10] وفي الحديث
فوالله الذي لا إله غير إن أحدكم ليعمل بعلم أهل الجنة حتى مايكون بينه
وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )[11] ، و( الأعمال بالخواتيم )[12]
اللهم اختم بالسعادة أعمارنا وأعمالنا .
والحمد لله رب العالمين .
* / كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
4/3/1428
[1] أخرجه البخاري ( 1461) ، ومسلم ( 2805). من حديث أنس رضي الله عنهما .
[2] أخرجه البخاري ( 2586) ، ومسلم ( 1632). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
[3] رواه البزار ، وحسنه الحافظ ابن حجر ، ينظر : مختصر زوائد البزار (2/72) .
[4] ينظر : تفسير القرآن العظيم ، للحافظ ابن كثير (1/523) ؛ في ظلال القرآن ، لسيد قطب ( 1/424).
[5] رواه البخاري رقم (6019) .
[6] ديوان لبيد بن ربيعة ص 90.
[7] أخرجه مسلم (2230) . عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
[8] رواه أبو داود ( 15) . وهو حديث صحيح .
[9] ينظر : موسوعة ولله الأسماء الحسنى ، للنابلسي ص 126 .
[10] أخر جه مسلم ( 2651) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[11] أخرجه البخاري ( 6221) ، ومسلم ( 2643) . من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
[12] أخرجه البخاري ( 6233) . من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه .